عبد العزيز كوكاس
ها قد حلت الذكرى الخامسة عشر لوفاة الملك الحسن الثاني حسب التقويم الميلادي..
بابتعادنا زمنياً عن الراحل الحسن الثاني، هل نستطيع اليوم بناء معرفة موضوعية باعتماد قيم محايدة لفهم شخص الحسن الثاني خارج قيم المديح أو لعنات الهجاء؟ هل تكفي خمسة عشر سنة للنِّسيان، نسيان الارتباطات الجريحة برئيس دولة حكم المغرب لأكثر من 38 سنة، نسيان آثار النِّعمة ووشم النقمة من ذاكرتنا.. لنستعيد صورة رجل دولة في سياق تاريخي معقد، وفي ظل دولة فتية بإحباطاتها العظمى وأحلامها الكبرى وإمكانياتها الفقيرة؟
خمسة عشر سنة مرت اليوم على رحيل الحسن الثاني، هل تكون كافية لنزن أحكامنا حول الرجل بميزان من ذهب، يخلصنا مما تراكم على إطار هذه الصورة من أوساخ الزمن العابر وأساطير المعجبين وخرافات الموالين وأحقاد الحاسدين وضغائن الضحايا؟
هل نحتاج إلى أجنبي يحدثنا عن الحسن الثاني بلغة هادئة رصينة لنفهم الرجل كرئيس دولة، ككائن تاريخي في سياق شروط موضوعية.. في سطح الذاكرة الشعبية، تأتي المقارنة بين الملوك الثلاثة على نحو ساخر: “محمد الخامس شَفْناه في القمرة، والحسن الثاني بيَّتْنا في السَّمْرة ومحمد السادس زولنا من القهرة” وعند البعض “ضسر علينا المراة”.. وفي الخطاب الإيديولوجي المُنْتَج في الدهاليز السرية، يبدو محمد الخامس كبطل للتحرير وحفيده محمد السادس ملكا للفقراء، فيما تضيع صورة الحسن الثاني كمشيد للدولة المغربية الحديثة بشكل قصدي.. هل هو قتل رمزي للأب؟
في عمق الذاكرة الشعبية، التي عبَّرت عن عواطف غامضة ودفينة، في موكب جنازة الراحل، يبدو المرحوم الحسن الثاني رجلا ذكيا يخطب بدون ورقة وفيلسوفاً حكيما، ورجلا يحوز قوة سحرية ما فوق طبيعية.. لعلها الألفة مع الزعيم الذي تحضر صورته وصوته، في تفاصيل المعيش اليومي للمغاربة، صورة تقترب من الأَسْطرة.
اليوم عند النخبة يلتبس الموقف أكثر، بين من يشده الحنين إلى صورة ملك الأمس ضد موقعه في حاضر اليوم، فيرتبط حضور الحسن الثاني بالموقع الذي لعبه على مستوى العلاقات الخارجية وبقوة خطب الرجل وفصاحته، وبقوة السلطة واحترام التقاليد المخزنية.. إن جيل النخبة الذي عاش مع الحسن الثاني، حتى من المعارضين الذين لم يقتربوا من دوائر السلطة ولم يعانوا كثيراً من بَطش سلطة الملك الراحل، يشتركون مع ذوي النعمة على عهد الحسن الثاني، في النظر إليه كرجل استثنائي لا يُعَوَّض، ولعل الكثيرين منهم يُعيدون كل ما حدث اليوم من تراكمات إلى الملك الراحل.
فيما تبقى صورة “الملك المستبد” الذي اقترنت به سنوات الرصاص، الرجل الانتقامي، الأنيق الحقود الذي استعمل القوة بشكل زائد للدفاع عن حكمه والاستفراد به، إنه الحسن الثاني مجسدا في صور رجالات القمع والدم بالمغرب “أوفقير، الدليمي والبصري..” كلا الصورتين النمطيتين، نعتقد، بعد مرور خمسة عشر سنة على وفاة الرجل، لا تمكناننا من إنتاج معرفة موضوعية بالحسن الثاني خارج الكليشيهات التي علقت بصورته..
في تقديرنا فإن الحسن الثاني يمثل عجينة خاصة، بل استثنائية لرجل دولة حكم المغرب حقيقة لما يقارب الأربعين سنة، في مناخ دولي وإقليمي ووطني معقد، ونعتبر أن أحسن تقييم لحكم الحسن الثاني يتجسد في تقريرين أساسيين، للأسف لم يتم الانتباه لا لجرأتهما التاريخية ولا للأفق الديمقراطي الذي يفتحانه باتجاه مغرب حديث بدولة عصرية وهما: تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة وتقرير الخمسينية الذي مما جاء فيه: “إن صورة الوضع بالمغرب ليست مشرقة تماما ولا قاتمة بشكل يتعذر تصحيحه، فبعد خمسين سنة من الجهد، تُبين لوحة مؤشرات التنمية البشرية أن المغرب هو بلاد عرفت تغيراً عميقا، ذلك أن المغرب الراهن يختلف عن مغرب 1955، وإن التذكير بهذا الواقع ينبع أولا من واجب الذاكرة تجاه أولئك الرجال والنساء، الذين تسلحوا بإرادة لا يمكن التنكر لها أبداً، فضلا عن الجهود التي بذلوها من أجل وضع البلاد، التي أنهكتها صدمة الاستعمار، على سكة التنمية، من جعلها قادرة على مواجهة المسؤوليات الجديدة التي تتطلبها السيادة المسترجعة.. ومن تم، فإذا كانت هذه القناعة مبنية على النظرة التاريخية الهادئة، فإنها لا ينبغي أن تنحصر في نوع من الرضى الساذج، الذي يُعيق كل تقويم استرجاعي موضوعي ومتوازن، وكما أننا نسمح لأنفسنا اليوم بتقويم ما قامت به الأجيال المتعاقبة، خلال النصف قرن الأخير، فإنه يتعين علينا أيضا أن نأخذ بعين الاعتبار سياقاتها وإكراهاتها وطموحاتها”.. “المغرب الممكن” ص11.
إن صورة المغرب بهذا التوصيف الدقيق، واسمحوا لي أن أقول النزيه، هي صورة الحسن الثاني، كرجل دولة لربما أحسَّ، أكثر من مرة حين كان يلتقي بعظماء زمنه من رؤساء دول عظمى على بلادتهم، بأن الزمن ظلمه بأن جعله رئيساً على دولة متخلفة!
لربما هو الرجل الحديدي، المستبد المستنير، لكنه لا يمكن اختزاله في صورة رصاصية لماضي جريح، باختصار أقول إن الحسن الثاني رجل باهر عاش زمنه بقياس ملك يحكم ويسود، وكان يتوفر على حدس خارق وذكاء استثنائي، غير أن تفوق ذكائه كان يحوله أيضا إلى رجل أناني، واثق من خطواته، لا يثق بإبداع الآخرين، مغتر، إلى حد النرجسية، بقدراته الذاتية، ملك حداثي في قلب إكراهات شروط مجتمع تقليدي، كائن عاشق للحياة، للحب والجمال والفن.. لكنه أيضا، شره في الاستفراد بالسلطة حد التوحد بها..
كان مبالغاً في كل شيء، في السهر حتى آخر الصبح، في الاستيقاظ حتى أول الظهر أو آخره، في الأناقة حد النظافة العفنة، في اهتمامه بالتفاصيل الصغرى كشيطان رجيم، في ترفُّعه عن الجزئيات العابرة كملك رحيم، في حفاظه على الملكية بدفع نفسه كقربان للمرحلة، في قدرته على التضحية بثلثي الشعب من أجل إرضاء شراهته القصوى لتفرد بالسلطة، في انفتاحه على المغاربة بدون حدود، في بنائه لدولة حداثية تمتلك كل مقومات التقدم والتطور..
باختصار، لابد للعظماء من أخطاء تناسبهم في العظمة، هو ذا الحسن الثاني بعد مرور خمسة عشر سنة، أو مائة أو تسعة مائة سنة حتى، إذا أردنا أن نترفع عن مقاييس الجحود أو الوفاء الانتهازي لروح الحسن الثاني.