محللون ومحرمون
عبد العزيز كوكاس
أصبحت أصاب بالغثيان وأنا أتابع تلفزيوناتنا وإذاعاتنا العديدة التي تتنافس في الرداءة، وأعجب ما يثير تقززي هو جيش المحللين المتعاقدين بشكل مستمر مع قنواتنا الإعلامية والذين يفتون برأيهم في كل شيء، يقولون اليوم رأيا وغدا يقدمون تحليلا مناقضا لما صرحوا به بالأمس، معتقدين أننا نحن الرعاع من المشاهدين لدينا ذاكرة قصيرة مثل الذباب، وأوشك أن أطلق صرخة الاستهجان التي أطلقها الروائي الإيطالي ألبيرتو إيكو، الذي لم يكن متحمسا تماما للأنترنيت وهو يقول بأن الناس الذين كانوا يتكلمون ويكتبون أصبحوا صامتين، وأفسحنا المجال ل”imbéciles” البلهاء، الذين يقولون أي شيء ويفهمون في كل شيء ويعلقون على كل شيء ولا يرضون بأي شيء ويقبلون كل شيء..
طينة جديدة من المحللين السياسيين من ذوي الثقافة السطحية الذين يعرفون من كل فن طرف، يمكن للساني منهم أن يتكلم عن السياسة والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ والانثريولوجيا، والقانوني منهم يصبح خبيرا له معهد على الورق من معاهد الاستراتيجيات والأبحاث والدراسات المختصة في الشؤون العسكرية أو الجيولوتيكية أو الأمنية أو الزعبولية (أي المختصة في شؤون التين الشوكي)، يدلي بدلوه في انقلاب بورما وأجندة جو بايدن، ومستقبل إسرائيل وما يقع في شريط الساحل جنوب الصحراء، ويفهم في ثقب الأوزون وأثره على تغير الجغرافيا الدولية وانعكاس ذلك على القوى العظمى والعالم غير المتقدم، بل ويفهم في جوانب تحليل الخطاب والسيكولوجيا والسوسيولوجيا وعلوم السيبرنطيقا، وإذا ما سئل عن آثار كورونا على اقتصاديات العالم، لا يفكر ولا يدبر، ولا يعتذر عن الحديث فيما لا علم له به، فلا مجال للتواضع عند هؤلاء المحللين الجدد، حتى في حياتهم الخاصة، يهمهم أن يشار إليهم بالبنان وهم في المقاهي أو الأسواق أو في الشارع العام، حيث يتهامس الناس من حولهم والواحد منهم يسترق السمع بشكل طاووسي مستعد للسلام على كل من يتقدم إليه معتقدا أنه أصبح شخصية عمومية مؤثرة ومشهورة..
هؤلاء المحللون أو المحرمون يتزاحمون على شاشاتنا مثل الذباب، حتى اختفى المحللون والخبراء الحقيقيون الذين آثروا الصمت أو الانكباب على أبحاثهم ومشاريعهم الثقافية والفكرية في عزلة تامة، لا يسأل فيهم أحد ولا يعرفهم أشباه الصحفيين الجدد الذي يعرفون الشيخة “التراكس” أكثر مما يعرفون عبد الله العروي ومحمد سبيلا وعابد الجابري، أو حسن شحاتة وجبران خليل جبران… ويعرفون أغنية الواوا أكثر مما يعرفون فيروز وأسمهان.
أصبحت أسماء هؤلاء المحللين الجهابدة في الجهل وتسطيح الوعي تطلع علينا في كل مكان، كجزء من مشهد الرداءة الذي يتناسل بيننا إسفافا وانحطاطا، ويرافقهم في طابور التسطيح نوعية جديدة من السياسيين الشعبويين أو الدمى المحنطة التي لا تنتج خطابا متزنا ولا تقدم رؤى وتحاليل يستفيد منها صانع القرار والمجتمع على حد سواء، لذلك من يوجه انتقاداته إلى إسفاف الصحافة عليه أن يعلم أن الصحافة ليست سوى مرآة للمجتمع الذي تنمو فيه، وكلما ضعف الفاعل السياسي وانزوى المثقفون والحكماء وامتلأت الساحة فقط بأشباه المحللين والطفيليين على الميدان من كل حدب وصوب، ضعفت الصحافة وسقطت في التفاهة والإسفاف..