لم يختلف الفلسطينيون على قائد مثل ما اختلفوا حول ياسر عرفات ولم يتفق الفلسطينيون على رجل مثلما اتفقوا حول “أبو عمار”، رجل يبدو كما لو أنه قُد من حديد.. بين الرصاصة والأخرى ظل ينحني قليلا، ثم يصعد مثل شجر السنديان.
ظل ياسر عرفات منذ نشأته في القاهرة إلى امتطائه الطائرة في اتجاه سرير بارد بباريس، إلى أن ووري الثرى.. شاهدا على قرن بكامله، بمعجزاته وخياناته لشعب يطالب بأرض يرى عليها ظله.
برغم “تخلفه” الدراسي في مجال الهندسة، تخصصه الذي قاده إلى أن يكون رئيسا لاتحاد الطلبة الفلسطينيين سنة 1952، كان محمد عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني، مهندسا استراتيجيا لمسار الجرح الفلسطيني، ورغم أقمطة الحرير التي احتضنت الطفل ياسر عرفات في حي أرستقراطي بشارع أمبان بالقاهرة، فإنه اختار الانتماء إلى منطقة الجرح، هكذا في 1952، وهو في منتصف عقده الثالث، جذبه بريق الإخوان المسلمين، لكن عدم وضوح الخط الإيديولوجي للإخوان وارتباطهم الملتبس بدول دعم متناقضة..وفيما يشبه حادثة سير في منعطف التاريخ، وجد عرفات نفسه إلى جانب خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) يضعون اليد على الجمر، ويطلقون الشرارة الأولى لحركة فتح..
ولأن اللحم الفلسطيني ظل وليمة للعديد من الأنظمة العربية، فقد كان عرفات في وضع الرجل الصبور الذي لا يستعجل التاريخ، لذلك سماه المقربون ب “ياسر” لأنه لم يجد صعوبة في امتطاء كل صعب.. من رام الله إلى غزة، ومن جرح اغتصاب القدس إلى قلبه.. من فلسطين إلى الأردن، ومن عمان إلى بيروت فتونس.. تمتد الطريق إلى المنافي حتى قبره الذي أعيد نبشه..
ظل عرفات يحمل حقيبة الجرح التي تحمله من ميناء إلى ميناء، من مطار إلى مطار بحثا عن وطن ظل يُسرق من شعبه بالتقسيط المريح، وتحت حماية الأنظمة العربية.. أتذكر بعد الرحيل عن بيروت نحو تونس سأله صحفي: “والآن إلى أين؟” فأجاب بحكمة رزينة: “الآن إلى القدس” معشوقته المسلوبة.
لم يكن يحتاج طوال مساره إلى بوصلة حتى حينما وضعوا أمامه خريطة الطريق، لأنه كان يحمل القضية في قلبه، رافعا بيد بندقية وبالأخرى غصن زيتون وحمامة.. من مذبحة أيلول الأسود سنة 1970، حيث تم اغتيال الحركة الفدائية بأرض عربية إلى حصار إسرائيل لبيروت عام 1982، كان يُربي تربة فلسطين بيديه، قاد العاصفة على رصيف الحلم نحو الشهادة، ووجد نفسه في كماشة ما بعد حرب الخليج الأولى مضطرا لمصافحة إسحاق رابين بواشنطن في شتنبر 1993.. لينقلب عليه الإخوان قبل الأعداء، ويحس إلى أي درجة ظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند.
ظل القائد أبو عمار يمشي على أسلاك كهربائية عالية الضغط من أجل فسحة في الأرض فوجد نفسه يقضي بقية من العمر في غرفة محاصرا بدبابات إسرائيلية تزرع الموت من حوله، وما استكان، بل صرخ بوجع أيوبي: “يريدونني أسيرا أو شريدا أو قتيلا وأنا أقول لهم: سأكون شهيدا، شهيدا.. شهيدا “، إذ ليس للمستلبة حريته سوى قيوده.
ظل يمد يده ، قبل أن تُصاب بالارتعاش، من أجل السلام، وفي لغز تاريخي شائك، تساوت الضحية والجلاد، وصارا وحيدين نحو مائدة التفاوض، واقتسم الشهيد والقاتل جائزة نوبل للسلام في دجنبر 1994 بين ياسر عرفات وإسحاق رابين وشمعون بيريز.
ولما كان يرقد فيما يشبه لغز الحياة بمستشفى بفرنسا، التي ساعدته على إنقاذه من أنياب الموت سنة 1982 صحبة بيروت، توقف على نبضات قلبه مسار تاريخ شعب برمته.. حيث وجد ياسر عرفات نفسه وجها لوجه مع قرار أممي بحجم قرار 181، أعلن في الجزائر عن قيام الدولة الفلسطينية، ومهد الطريق نحو أوسلو وهو يرى رفاق الدرب يسقطون تباعا بخطط الموساد ويرى بحسرة خروج 400 ألف فلسطيني غضبا من الكويت بسبب دعم صدام حسين الذي أصبح مدعما للانتفاضة، حينها بدأ يؤمن بمبدأ الأرض مقابل السلام وبالاعتراف المتبادل باجتراحات اللحظة القاسية في ظل السواد العربي المنكفئ على هشاشاته الصغرى، حيث غدا مشهد قتل الطفل “الذرة” مناسبة لبعض الهيئات لجلب المال أو تحريك الخلايا النائمة في الجسد الحزبي..
ليس غريبا اليوم فيما يشبه لعبة تدنيس الجاني للضحية أن يندم بيريز على قتل الموساد لياسر عرفات، لقد كان الرجل يؤمن حقيقة بالسلام، وحدها إسرائيل كانت تعرف أن الرجل الذي خبر دهاليز السياسة الإسرائيلية في مفترق الأزمنة، لن يضع أوزار الحرب حتى وهو مكبل داخل “قصره”.. ولم تستطع المغامرة باقتحام هوليودي لمقر إقامته، لأنها كانت تؤمن بامتلاك الرجل قدرة سحرية على النجاة من الموت وتتذكر جيدا كيف تسلل إلى بيروت إلى جانب مقاتليه، وكيف سقطت طائرته في صحراء ليبيا وظل وحده حيا على قيد الجمر.. مثل طائر الفينيق كان ياسر عرفات يستيقظ بين الأنقاض أكثر تجددا وصمودا.
وحين كان ممددا على سرير الموت الذي لم يختره بعناية فائقة، ظل يحلم حتى وقت قريب من رحيله بشرف التتويج على رأس ما يُشبه الدولة الفلسطينية على ما تبقى من ترابها، حين قال للشرق الأوسط: “أنا مستعد لأن أكون نيلسون مانديلا، أنا موافق، لكن بعد قيام دولة فلسطينية أتولى رئاستها في البداية ثم أتركها بعد ذلك للآخرين”.. لكن الموت استعجله فرحل وفي نفسه شيء من رائحة القدس؟ وفيما يشبه مكر الجثة في أن ترى النور حتى بعد أن وُوري الجثمان الثرى، اختلفت السلطة الفلسطينية حول سبب وفاته، فتمت إعادة فتح قبره.. ليرى ما تبقى من روح عرفات ما تبقى من تاريخ القضية التي حمل وهجها طيلة مسار حياته والإخوة الفلسطينيون منقسمون حول حكم ما تبقى لهم من أرض..